الحلقة الأولى
اقترب العام الدراسي الجديد, وعبد الحليم يعد نفسه بكل نشاط لاستقباله.. يرقب انقضاء آخر يوم من الإجازة الصيفية, وفي صباح اليوم التالي استيقظ باكرا, ثم توجه إلى عمله متفائلا, وفي أول أيام العمل أخذ مدير المدرسة منيب يسلم كل معلم مهامه, وعبد الحليم ينتظر.. وينتظر.. لكن منيبا لم يأتِ وكأنه يخفي شيئا ما.. ارتاب عبد الحليم وأفضل سبيل لتحطيم أغلال الحيرة المواجهة, فتوجه إلى غرفة المدير ثم سأله:- أستاذ منيب, لم تسلمني جدول مهامي!!
- للأسف يا عبد الحليم.. لا جدول لك, فقد تم نقلك إلى مدرسة أخرى...
احمر وجهه واضطرب ثم قال: ولمَ تم نقلي؟! فأنا سعيد بعملي هنا, وإذا تم نقلي فستحتاج المدرسة شاغرا..
- مديرية التعليم أرسلت من يقوم مقامك, وقد راعوا في نقله كبر سنه, والمدرسة التي كان فيها لا تناسب ضعفه ولأنك لا زلت شابا نقلت مكانه..
- يا أستاذ منيب, لم أقترف العام الماضي أي مخالفة تستحق العقاب..
- لا بأس, نحن نعمل لمصلحة العمل..
ضحك عبد الحليم مستهزئا ثم قال:
- صحيح.. يبدو ذلك على تفكيركم السقيم, أنتم تعملون لمشلحة العمل..
- إن كان لديك أي اعتراض فيمكنك أن تتوجه إلى المديرية..
- المديرية!! وهل تفكير المديرية أصلح.. وهل تصلح أمور الرجال إذا أدارتها امرأة؟!! لكن سأذهب وأنظر ماذا عندهم..
وتوجه عبد الحليم إلى مديرية التعليم مضطربا, وكل الأفكار السلبية تفور داخله, إن كانت تتوارد للإنسان ألف فكرة يوميا ثمانون بالمائة منها سلبية, فإن عبد الحليم لا يتسع تفكيره للإيجابية البتة, وعلى الرغم من ذلك فإنه يحاول أن يسلي نفسه متفائلا كظمآن في مفازة يسليه السراب, دلف المديرية فسأل السكرتير عن سيادة المديرة المفكرة, فأجابه أنها في إجازة ويمكنه مراجعة النائب الفني أو النائب الإداري لها, توجه إلى النائب الفني مرسي:
- السلام عليك..
- وعليك السلام.. أهلا بك أستاذ عبد الحليم..
- أريد أن أسأل عن موضوع نقلي من المدرسة..
- من الصعب جدا الحديث عن موضوع النقل الآن...
- وهل يوجد شيء صعب؟! إن نقل مدرس من مدرسته لاستبداله بأستاذ آخر هرم لهو أصعب من الحديث في النقل.
- كلامك صحيح.. لكن لا شأن لي في التنقلات راجع النائب الإداري سواد...
وهكذا كل واحد ينسلخ من المسؤولية كما ينسلخ الثعبان من جلده ليلقيه إلى الطبيعة, وليتهم يتركونها للطبيعة فهي أعدل منهم, توجه عبد الحليم إلى سواد.. وجد مكتبه مكتظا بالمراجعين, فانتظر عند الباب قليلا و أخذ يغمغم:
(يا سلام على قمة التطور والاحترام في مديرية التعليم!! السكرتير يتعامل مع المراجعين وكأنه دكتور جامعي, والمديرة تركت المديرية لرأسين.. كل رأس في غياب المديرة يحاول أن يثبت جدارته, ولا يوجد من يبحث عن الارتقاء في التعليم.. كلهم طوع قرار السيدة, فالرأي ما ترى المرأة, وهل يقدر أحد النائبين أو أحد الموظفين في المديرية أن يعترض على إدارتها؟! المخالف ينفى.. والمنتقد يفصل.. المهم أن تبقى للمرأة السيادة, يا سلام على رجولتك وأنت تسوسك امرأة!! عجبا لهذه اللحى كيف تنزل تحت كلمة سيدة هرمة), نفض عن نفسه تلك التصورات فربما السيدة أجدر منهم كلهم, ومن المحتمل أن كل الرجال غير قادرين على الإدارة, وربما لا توجد الكفاءة في الدنيا إلا في النساء.. الله أعلم!!!
دخل إلى سواد: السلام عليكم..
- وعليكم السلام.
- أريد أن أتحدث عما جرى معي.
- بخصوص النقل.
- صحيح.
- هذا الأمر انتهى.. لا سبيل إلى الحديث فيه.
- كيف ينتهي وأنا لا زلت رافضا.
- الأمور ليست كما تريد.
- لكني لم أفعل ما يستحق عقاب النقل.
- نقلك ليس عقابا.. إنما هو ترتيب أولويات.
- كيف ذلك؟!
- إننا استبدلناك بأستاذ هرم, إذ من غير المعقول أن تكون وأنت في شبابك في هذه المدرسة ونرسل به إلى مدرسة بعيدة..
- إنني أحترم الكبار, وهذا واجب, ولكن هل يجب على الإنسان أن يشيب حتى يحترم..
- طبعا لا, ولكننا نعمل بالأولى.
- أي أولى تقصد.. وهل تفهم سياسة الأولى؟!! إنك متناقض!!
- وكيف تصفني بالمتناقض؟
- أنت نفسك من نقل الأستاذ نتيم من ذات المدرسة وقد جاوز خمسة وخمسين عاما لتستبدله بأستاذ صغير في السن,, أين الأولوية يا..
- ماذا!! هذا ليس شأنك؟!
- ثم لأن نتيم هادئ الطبع رضي بالنقل في حين أن آشور عندما تم نقله جاء إليك وقلب الطاولة عليك إلى أن عاد إلى مدرسته.. لماذا لا تحترمون إلا الذي لا يحترمكم؟!!
- عليك أن تلزم حدودك..
- حدي أن أعود إلى المدرسة التي كنت أعمل فيها..
- القرار صدر ولا عودة.
- إذًا, سأذهب إلى المدرسة الجديدة, وسأعمل فيها كارها..
- تكره أو تحب.. المهم أن تنفذ القرار.
- إن كنت كارها فسأفقد حيويتي ونشاطي مما يؤثر على أدائي..
- لا بأس..
- وأين مصلحة التعليم؟! هل مصلحة التعليم في حضوري أو في تدريسي؟!
- عندي أعمال كثيرة وعلي إنجازها.. هل تود أن تسأل عن شيء آخر؟
- لا شكرا, السلام عليكم..
خرج عبد الحليم من مديرية الرجعية والتفكير المقلوب, إلى مدرسته الجديدة, جلس فيها مغموما, لا يقبل على أحد ولا يتقبل أحدا, ضاق صدره فخرج من المدرسة قاصدا منزله وهو يغمغم )الحمد لله على كل حال, لا أدري كيف يفكر أولئك.. هل يجب على الإنسان أن يهرم ليكون معطاء, كيف يقدمون الشياب على الشباب في العطاء؟!! هل أقول:
ألا ليت المشيب يحل يوما***فأخبره بما ذل الشباب
كلما حاولوا إخماد ناري أو قتل أفكاري, حاولت أن أبدو أقوى..)
ثم وصل بيته وجلس على مكتبه ومسك قلمه فكتب: القصة السابقة
الكاتب/
يوسف بن حسن حجازي
تعليقات
إرسال تعليق